فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)}
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامِهم، وهما الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويجهم تكذيبه، جاء هذا الاستئناف بياناً لإجمال قوله: {عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون} [النبأ: 2، 3].
وسيجيء بعده تكملته بقوله: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17].
وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق، وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البِلى بأنها لا تبلغ مبلغ إيجاد المخلوقات العظيمة ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها.
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير الخطاب بدليل عطف {وخلقناكم أزواجاً} [النبأ: 8] عليه.
والاستفهام في {ألم نجعل} تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يَكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف (لم)، وذلك النفي كالإعذار للمقرَّر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهاداً لا بنفيه فحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير.
فالمعنى: أجعلنا الأرض مهاداً ولذلك سيعطف عليه {وخلقناكم أزواجاً} وتقدم عند قوله تعالى: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} في سورة البقرة (33).
ولا يسعهم إلا الإِقرار به قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللَّه} [لقمان: 25]، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس (أي الثاني) ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [غافر: 57].
وجَعْلُ الأرض: خَلْقُهَا على تلك الحالة لأن كونها مهاداً أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومِن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإِنسان لا يعلمه إلا الله.
والمعنى: أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ.
والتعبير بـ: {نجعل} دون: نخلق، لأن كونها مهاداً حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالباً أو إلى الوصف المقوّم للذات نحو: {الذي خلق الموت والحياة} [الملك: 2].
والمِهاد: بكسر الميم الفراش الممهد المُوطّأُ؛ وَزِنَةُ الفِعَال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة.
وفي (القاموس): أن المهاد يرادف المهد الذي يجعل للصبي.
وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جُعل سطحها ميسراً للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس، فهو استدلال يتضمن امتناناً وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بِلاها.
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعَوُوا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى.
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث، أي بعث أهل القبور.
وجعل الأرض مهاداً يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعدُ عند التعرض لخلق السماوات.
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)}
عطف على {الأرض مهاداً} [النبأ: 6] فالواو عاطفة {الجبال} على {الأرض}، وعاطفة {أوتاداً} على {مهاداً}، وهذا من العطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل.
والأوتاد: جمع وتد بفتح الواو وكسر المثناة الفوقية.
والوتد: عود غليظ شيئاً، أسفله أدق من أعلاه يُدق في الأرض لتُشد به أطناب الخيمة وللخيمة، أوتاد كثيرة على قدر اتساع دائرتها.
والإِخبار عن الجبال بأنها أوتاد على طريقة التشبيه البليغ أي كالأوتاد.
ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض وتشبيهُها بالمهاد الذي يكون داخل البيت فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت تخييلاً للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده.
وأيضاً فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهاداً فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مستملحاً بمنزلة حسن الاعتذار، فيجوز أن تكون الجبال مشبهة بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم: رأيت أسوداً غَابُها الرماح.
ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سَبح الأرض في الكرة الهوائية إذْ نُتُوّ الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكُرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تيّاره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة.
على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمّة في الجبال فمنها مسايل الأودية، وقرارات المياه في سفوحها، ومراعي أنعامهم، ومستعصمهم في الخوف، ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدوّ. ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض.
فكانت جملة {والجبال أوتاداً} إدْماجاً معترضاً بين جملة {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6] وجملة {وخلقناكم أزواجاً} [النبأ: 8].
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)}
معطوف على التقرير الذي في قوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6].
والتقدير: وأخلقناكم أزواجاً، فكان التقرير هنا على أصله إذ المقرر عليه هو وقوع الخلق فلذلك لم يقل: ألم نخلقكم أزواجاً.
وعبر هنا بفعل الخلق دون الجعل لأنه تكوين ذواتهم فهو أدق من الجعل.
وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6]، وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب.
والمعطوف عليه وإن كان فعلاً مضارعاً فدخول (لم) عليه صيّره في معنى الماضي لما هو مقرر من أنّ (لم) تقلب معنى المضارع إلى المضي فلذلك حسن عطف {خلقناكم} على {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً} [النبأ: 6، 7] والكل تقرير على شيء مضى.
وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلاً مضارعاً مثل المعطوف هو عليه لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى: {فتثير سحاباً} [الروم: 48]، فالإتيان بالمضارع في {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6] يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال إذ هي مرئيات لهم.
والأكثر أن يَغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعوُّدهم بمشاهدتها من قبل سِنِّ التفكر، فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بَلْهَ أن يتفكروا في صنعها، والجبالَ يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها والسير في وعرها وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها وصرف النظر إلى مسالك العدوّ عند الاعتلاء إلى مراقبها، فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحَرِيَّة بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قُرروا به على بصيرة فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلاً.
وجيء بفعل المضي في قوله: {خلقناكم أزواجاً} وما بعده لأن مفاعيل فعل (خلقنا) وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم.
وذُكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواماً، فإقرارهم بها أيسر لأن دلالتها قريبة من البديهي.
وقد أُعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم، والدليلُ في خلق الناس على الإِبداع العظيم الذي الخلقُ الثاني من نوعه أمكنُ في نفوس المستدل عليهم قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21].
وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك ثني باستدلال بخلق الناس الأول لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما متّ لسوف أخرج حياً أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً} [مريم: 66، 67].
وانتصب {أزواجاً} على الحال من ضمير الخطاب في {خلقناكم} لأن المقصود الاستدلال بخلق الناس وبكون الناس أزواجاً، فلما كان المناسب لفعل خلقنا أن يتعدى إلى الذوات جيء بمفعوله ضمير ذوات الناس، ولما كان المناسب لكونهم أزواجاً أن يساق مساق إيجاد الأحوال جيء به حالاً من ضمير الخطاب في {خلقناكم}، ولو صرح له بفعل لقيل: وخلقناكم وجَعلناكم أزواجاً، على نحو ما تقدم في قوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6] وما يأتي من قوله: {وجعلنا نومكم سباتاً} [النبأ: 9].
والأزواج: جمع زوج وهو اسم للعدد الذي يُكرر الواحد تكريرةً واحدة وقد وصف به كما يوصف بأسماء العدد في نحو قول لبيد:
حتى إذا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً

ثم غلب الزواج على كل من الذكر وأنثاه من الإنسان والحيوان، فقوله: {أزواجاً} أفاد أن يكون الذكر زوجاً للأنثى والعكس، فالذكر زوج لأنثاه والأنثى زوج لذَكرها، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} في سورة البقرة (35).
وفي قوله: {وخلقناكم أزواجاً} إيماء إلى ما في ذلك الخلققِ من حكمة إيجاد قوة التناسل من اقتران الذكر بالأنثى وهو مناط الإيماء إلى الاستدلال على إمكان إعادة الأجساد فإن القادر على إيجاد هذا التكوين العجيب ابتداء بقوة التناسل قادر على إيجاد مثله بمثل تلك الدقة أو أدق.
وفيه استدلال على عظيم قدرة الله وحكمته، وامتنان على الناس بأنه خلقهم، وأنه خلقهم بحالة تجعل لكل واحد من الصنفين ما يصلح لأن يكون له زوجاً ليحصل التعاون والتشارك في الأنس والتنعم، قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف: 189] ولذلك صيغ هذا التقرير بتعليق فعل (خلقنا) بضمير الناس وجُعل {أزواجاً} حالاً منه ليحصل بذلك الاعتبار بكلا الأمرين دون أن يقال: وخلقنا لَكُم أزواجاً.
وفي ذلك حمل لهم على الشكر بالإِقبال على النظر فيما بُلِّغ إليهم عن الله الذي أسعفهم بهذه النعم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعريض بأن إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النعم.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)}
انتقل من الاستدلال بخلق الناس إلى الاستدلال بأحوالهم وخص منها الحالة التي هي أقوَى أحوالهم المعروفة شبهاً بالموت الذي يعقبه البعث وهي حالة متكررة لا يَخلُونَ من الشعور بما فيها من العبرة لأن تدبير نظام النوم وما يطرأ عليه من اليقظة أشبه حالٍ بحال الموت وما يعقبه من البعث.
وأوثر فعل {جعلنا} لأن النوم كيفية يناسبها فعل الجعل لا فعلُ الخلق المناسبُ للذوات كما تقدم في قوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6] وكذلك قوله: {وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً} [النبأ: 10، 11].
فإضافة نوم إلى ضمير المخاطبين ليست للتقييد لإخراج نوم غير الإنسان فإن نوم الحيوان كلِّه سبات، ولكن الإضافة لزيادة التنبيه للاستدلال، أي أن دليل البعث قائم بَيِّن في النوم الذي هو من أحوالكم، وأيضاً لأن في وصفه بسُبات امتناناً، والامتنان خاص بهم قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} [يونس: 67].
والسُّبَات: بضم السين وتخفيف الباء اسم مصدر بمعنى السبتت، أي القطع، أي جعلناه لكم قطعاً لعمل الجسد بحيث لابد للبدن منه، وإلى هذا أشار ابن الأعرابي وابن قتيبة إذ جعلا المعنى: وجعلنا نومكن راحة، فهو تفسير معنى.
وإنما أوثر لفظ (سُبات) لما فيه من الإشعار بالقطع عن العمل ليقابله قوله بعده {وجعلنا النهار معاشاً} [النبأ: 11] كما سيأتي.
ويطلق السُبات على النوم الخفيف، وليس مراداً في هذه الآية إذ لا يستقيم أن يكون المعنى: وجعلنا نومكم نوماً، ولا نوماً خفيفاً.
وفي (تفسير الفخر): طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا: السبات هو النوم فالمعنى: وجعلنا نومكم نوماً.
وأخذ في تأويلها وجوهاً ثلاثة من أقوال المفسرين لا يستقيم منها إلا ما قاله ابن الأعرابي أن السبات القطع كما قال تعالى: {من إله غير اللَّه يأتيكم بليل تسكنون فيه} [القصص: 72] وهو المعنى الأصلي لتصاريف مادة سبت.
وأنكر ابن الأنباري وابن سِيدة أن يكون فعل سبَت بمعنى استراح، أي ليس معنى اللفظ، فمن فسر السُبات بالراحة أرَاد تفسير حاصل المعنى.
وفي هذا امتنان على الناس بخلق نظام النوم فيهم لتحصل لهم راحة من أتعاب العمل الذي يَكدحُون له في نهارهم فالله تعالى جعل النوم حاصلاً للإنسان بدون اختياره، فالنوم يلجئ الإِنسان إلى قطع العمل لتحصل راحة لمجموعه العصبي الذي رُكنه في الدماغ، فبتلك الراحة يستجدّ العصب قواه التي أوهنها عمل الحواس وحركات الأعضاء وأعمالها، بحيث لو تعلقت رغبة أحد بالسهر لابد له من أن يغلبه النوم وذلك لطف بالإِنسان بحيث يحصل له ما به منفعة مداركه قسْراً عليه لئلا يتهاون به، ولذلك قيل: إن أقل الناس نوماً أقصرهم عمراً وكذلك الحيوان.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)}
من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباساً حالة مهيئة لتكيف النوم ومُعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الأبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة، فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره.
وكان دليلاً على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فَلَمَا كذبوا خَبَر الرسول صلى الله عليه وسلم به، وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدَروه حق قدره لشكروا وما أشركوا، فكان تذكر حالة الليل سريع الخطور بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين.
والمعنى من جعل الليل لباساً يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس.
فيجوز أن يكون اللباس محمولاً على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه، أي ما يلبسه الإِنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلنا الليل للإِنسان كاللباس له، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية.
وتحته ثلاثة معانٍ:
أحدها: أن الليل ساتر للإِنسان كما يستره اللباس، فالإِنسان في الليل يختلي بشؤونه التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار، وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظّلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين، أي إلهين: إله النور وهو صانع الخير، وإله الظلمة وهو صانع الشر.
ويقال لهم: الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين إثنين، وهم فِرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذيْنك الأصلين، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المَانوية نسبة إلى رجل يقال له: (مانِي) فارسي قبل الإسلام، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له: (مَزْدَك) فارسي قبل الإسلام.
وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض في قوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد ** تُخَبِّر أن المانَوِيَّةَ تكذِبُ

المعنى الثاني: من معنيي وجه الشبه باللباس: أنه المشابهة في الرفق باللاَّبس والملاءمة لراحته، فلما كان الليل راحة للإِنسان وكان محيطاً بجميع حواسه وأعصابه شُبه باللباس في ذلك.
ونُسب مُجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير والسُّدي وقتادة إذ فسروا {سباتاً} [النبأ: 9] سكَناً.
المعنى الثالث: أن وجه شبه باللباس هو الوقاية، فاللَّيل يقي الإِنسان من الأخطار والاعتداء عليه، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحاً ولذلك إذا غِير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله: يا صَبَاحَاه.
ويقال: صَبَّحَهم العَدوُّ.
وكانوا إذا أقاموا حرساً على الرُّبى نَاظُورَةَ على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهاراً فإذا أظلم الليل نزل الحَرس، كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكرُ فرسه:
حَتَّى إذا أُلْقَتْ يداً في كَافر ** وأجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُور ظلامُها

أسْهَلَتُ وانْتَصَبَتْ كجِذْع منيفة ** جَرْدَاءَ يَحْصَر دونها جُرَّامُها

{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}
لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بذكر خلق نظام النهار، فالنهار: الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشراً على جزء كبير من الكُرة الأرضية.
وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه إذ جُعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابُه فوق الأرض، وهما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب والآثار؛ فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء، ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي، لأن النهار يعقب الليل فيكون الإِنسان قد استجدَّ راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إِبصار الشخوص والطرق.
ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش وقد أشعر ذكرُ النهار بعد ذكر كل من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداءُ وقت اليقظة التي هي ضد النوم فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير: وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشاً، ففي الكلام اكتفاء دلت عليه المقابلة، وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعية لفظاً وضِمْناً.
والمعاش: يطلق مصدر عاش إذا حيي، فالمعاش: الحياة ويطلق اسماً لما به عَيش الإِنسان من طعام وشراب على غير قياس.
والمعنىان صالحان للآية إذ يكون المعنى: وجعلنا النهار حياة لكم، شبهت اليقظة فيه الحياة، أو يكون المعنى وجعلنا النهار معيشة لكم، والإِخبار عنه بأنه معيشة مجاز أيضاً بعلاقة السببية لأن النهار سبب للعمل الذي هو سبب لحصول المعيشة وذلك يقابل جعل الليل سباتاً بمعنى الانقطاع عن العمل، قال تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} [القصص: 73].
ففي مقابلة السبات بالمعاش على هذين الاعتبارين مطابقتان من المحسّنات.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)}
ناسب بعد ذكر الليل والنهار وهما من مظاهر الأفق المسمى سماء أن يُتبع ذلك وما سبقه من خلق العالم السفلي بذكر خلق العوالم العلوية.
والبناء: جعل الجاعل أو صُنع الصانع بيتاً أو قصراً من حجارة وطين أو من أثواب، أو من أدَممٍ على وجه الأرض، وهو مصدر بنى، فبيت المدَر مبني، والخيمة مبنيّة، والطِراف والقبة من الأدم مبنيان.
والبناء يستلزم الإعلاء على الأرض فليس الحفر بناء ولا نقر الصخور في الجبال بناء.
قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً دعائمه أعز وأطول

فذكر الدعائم وهي من أجزاء الخيمة.
واستعير فعل {بنيْنا} في هذه الآية لمعنى: خلقنا ما هو عَالٍ فوق الناس، لأن تكوينه عالياً يشبه البناء.
ولذلك كان قوله: {فوقكم} إيماء إلى وجه الشبه في إطلاق فعل {بنينا} وليس ذلك تجريداً للاستعارة لأن الفوقية لا تختص بالمبنيّات، مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السَبع الشداد.
والمراد بالسبع الشداد: السماوات، فهو من ذكر الصفة وحذف الموصوف للعلم به كقوله تعالى: {حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]، ولذلك جاء الوصف باسم العدد المؤنث إذ التقدير: سبعَ سماوات.
فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي: زُحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزُّهْرةُ، وعطارد، والقَمرُ.
وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حين يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس.
وهذا المحمل هو الأظهر لأن العبرة بها أظهر لأن المخاطبين لا يرون السماوات السبع ويرون هذه السيارات ويعهدونها دون غيرها من السيارات التي اكتشفها علماء الفلك من بعد.
وهي (سَتّورن) و(نَبْتُون) و(أُورَانُوس) وهي في عِلم الله تعالى لا محالة لقوله: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] وأن الله لا يقول إلا حقاً وصدقاً ويقرِّب للناس المعاني بقدر أفهامهم رحمة بهم.
فأما الأرض فقد عدت أخيراً في الكواكب السيارة وحُذف القمر من الكواكب لتبيُّن أن حركته تابعة لحركة الأرض إلا أن هذا لا دخل له في الاستدلال لأن الاستدلال وقع بما هو معلوم مسلم يومئذ والكل من صنع الله.
ويجوز أن يراد بالسماوات السبع طبقات علوية يعلمها الله تعالى وقد اقتنع الناس منذ القدم بأنها سبع سماوات.
وشِداد: جمع شديدة، وهي الموصوفة بالشدة، والشدة: القوة.
والمعنى: أنها متينة الخَلققِ قوية الأجرام لا يختل أمرها ولا تنقص على مرّ الأزمان.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)}
ذِكرُ السماوات يناسبه ذكر أعظم ما يشاهده الناس في فضائها وذلك الشمس، ففي ذلك مع العبرة بخلقها عبرة في كونها على تلك الصفة ومنّة على الناس باستفادتهم من نورها فوائد جمة.
والسراج: حقيقته المصباح الذي يستضاء به وهو إناء يجعل فيه زيت وفي الزيت خرقة مفتولة تسمى الذُّبَالة تُشْعل بنار فتضيء ما دام فيها بلل الزيت.
والكلامُ على التشبيهِ البليغ والغرض من التشبيه تقريب صفة المشبّه إلى الأذهان كما تقدم في سورة نوح.
وزيد ذلك التقريب بوصف السراج بالوهّاج، أي الشديد السَّنا.
والوهاج: أصله الشديد الوَهج (بفتح الواو وفتح الهاء، ويقال: بفتح الواو وسكون الهاء) وهو الاتقاد يقال: وَهَجَت النار إذا اضطرمت اضطراماً شديداً.
ويطلق الوهاج على المتلألئ المضيء وهو المراد هنا لأن وصف وهاج أُجريَ على سراج، أي سراجاً شديد الإِضاءة، ولا يقال: سراج ملتهب.
قال الراغب: الوَهجُ حصول الضوء والحرِّ من النار.
وفي (الأساس) عَدَّ قولهم: سراج وهاج في قسم الحقيقة.
وعليه جرى قوله في (الكشاف): متلألئاً وقَّاداً. وتوهجت النار، إذ تلمظت فتوهجت بضوئها وحرّها. فإذن يكون التعبير عن الشمس بالسراج في هذه الآية هو مَوقع التشبيه.
ولذلك أوثر فعل: {جعلنا} دون: خلقنا، لأن كونها سراجاً وهّاجاً حالة من أحوالها وإنما يعلق فعل الخلق بالذوات.
فالمعنى: وجعلنا لكم سراجاً وهّاجاً أو وجعلنا في السبع الشداد سراجاً وهّاجاً على نحو قوله تعالى: {ألم تروا كيف خلق اللَّه سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً} [نوح: 15، 16] وقوله: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً} [الفرقان: 61] سواء قَدَّرْتَ ضمير {فيها} عائداً إلى {السماء} أو إلى (البروج) لأن البروج هي بروج السماء.
وقوله: {سراجاً} اسم جنس فقد يراد به الواحد من ذلك الجنس فيحتمل أن يراد الشمس أو القمر.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)}
استدلال بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأً شبَيهاً بحياة بعد شبيهٍ بموت أو اقتراب منه ومَنْشأ تَخلق موجودات من ذرات دقيقة.
وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حبّ وشجراً، وكلأً، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإِنسان والحيوان وهي حياة النمَاء فيكون ذلك دليلاً للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شُبَهُ إحالة البعث.
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى: {ونزَّلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج} [ق: 9 11] ففي الآية استدلالان: استدلال بإنزال الماء من السحاب، واستدلال بالإِنبات، وفي هذا أيضاً منّة على المُعْرضِين عن النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم، ومن تنعمهم وجمال مَرَائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عندما يَبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صَادقة العَزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة.
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية.
والمعصرات: بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدتها مُعصرةِ اسم فاعل من: أعْصَرَتْ السحابةُ، إذا آن لها أن تَعْصِر، أي تُنزل إنزالاً شبيهاً بالعَصْر.
فهمزة (أعصر) تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمَّى همزة التهيئة كما في قولهم: أجَزَّ الزرعُ، إذا حان له أن يُجزّ (بزاي في آخره) وأُحصد إذا حان وقت حصاده.
ويظهر من كلام صاحب (الكشاف) أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيُّؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيُّؤ لإِصدار الفعل فإنه ذكر: أعْصَرتْ الجاريةُ، أي حان وقت أن تصير تحيض، وذكر ابن قتيبة في (أدب الكاتب): أركَبَ المُهْرُ، إذا حان أن يركب، وأقطفَ الكَرْمُ، إذا حان أن يُقطف.
ثم ذكر: أقْطَفَ القومُ: حان أن يَقطِفوا كُرومهم، وأنتجت الخيل: حان وقت نَتاجها.
وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى: {ألم تر أن اللَّه يزجي سحاباً} الآية من سورة النور (43)، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً جاء بالريح عَصَر بعضُه بعضاً فيخرج الودق منه، ومن ذلك قوله: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً} ومن ذلك قول حسان:
كلتاهما حَلَب العَصير فعَاطني ** بزُجاجة أرخاهما للمفصل

أراد حَسَّانُ الخمرَ والماءَ الذي مُزجت به، أي هذه من عصير العنب وهذه من عصير السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري للقومَ الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان اهـ.
والثّجاج: المُنصب بقوة وهو فَعَّال من ثَجّ القاصر إذا انصب، يقال: ثجّ الماءُ، إذا انصب بقوة، فهو فِعل قاصر.
وقد يسند الثجُّ إلى السحاب، يقال: ثج السحاب يَثُجّ بضم الثاء، إذا صَبَّ الماءَ، فهو حينئذ فعل متعدّ.
ووصف الماء هنا بالثّجاج للامتنان.
وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعاً بين الامتنان والإِيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصّانع.
وجيء بفعل {لنخرج} دون نحو: لننبت، لأن المقصود الإيماء إلى تصوير كيفية بعث الناس من الأرض إذ ذلك المقصد الأول من هذا الكلام ألا ترى أنه لما كان المقصد الأول من آية سورة {ق} هو الامتنانَ جيء بفعل {أنبتنا} في قوله: {ونزَّلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جناتٍ} [ق: 9] الآية.
ثم أتبع ثانياً بالاستدلال به على البعث بقوله: {كذلك الخروج} [ق: 11].
والبعث خروج من الأرض قال تعالى: {ومنها نخرجكم تارة أخرى} في سورة طه (55).
والحَب: اسم جمع حبّة وهي البرزة.
والمراد بالحب هنا: الحب المقتات للناس مثل: الحنطة، والشعير، والسُّلت، والذُّرة، والأرزُّ، والقُطنية، وهي الحبوب التي هي ثمرة السنابل ونحوها.
والنّبات أصله اسم مصدر نبت الزرع، قال تعالى: {واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17] وأطلق النبات على النابت من إطلاق المصدر على الفاعل وأصله المبالغة ثم شاع استعماله فنسيت المبالغة.
والمراد به هنا: النبات الذي لا يؤكل حبه بل الذي ينتفع بذاته وهو ما تأكله الأنعام والدواب مثل التبن والقُرط والفصفصة والحشيش وغير ذلك.
وجعلت الجنات مفعولاً لـ: (تخرج) على تقدير مضاف، أي نخل جنات أو شجر جنات، لأن الجنات جمع جَنة وهي القطعة من الأرض المغروسة نخلاً، أو نخلاً وكرْماً، أو بجميع الشجر المثمر مثل التين والرمان كما جاء في مواضعَ من القرآن، وهي استعمالات مختلفة باختلاف المنابت.
ووجه إيثار لفظ {جنات} أن فيه إيماء إلى إتمام المنة لأنهم كانوا يحبون الجنات والحدائق لما فيها من التنعم بالظِّلال والثمار والمياه وجمال المنظر، ولذلك أتبعت بوصف {ألفافاً} لأنه يزيدها حسناً، وإن كان الفلاحون عندنا يفضلون التباعد بين الأشجار لأن ذلك أوفر لكمية الثمار لأن تباعدها أسعد لها بتخلل الهواء وشعاع الشمس، لكن مساق الآية هنا الامتنان بما فيه نعيم الناس.
وألفاف: اسم جمع لا واحد له من لفظه وهو مثل أوزاع وأخياف، أي كل جنة ملتفة، أي ملتفة الشجر بعضه ببعض.
فوصف الجنات بألفَاف مبنيّ على المجاز العقلي لأن الالتفاف في أشجارها ولكن لما كانت الأشجار لا يَلتفّ بعضها على بعض في الغالب إلا إذا جمعتها جنة أسند ألفاف إلى جنات بطريق الوصف.
ولعله من مبتكرات القرآن إذ لم أر شاهداً عليه من كلام العرب قبل القرآن.
وقيل: ألفاف جمع لِفّ بكسر اللام بوزن جِذْع، أي كل جنة منها لف بكسر اللام ولم يأتوا بشاهد عليه.
وذكر في (الكشاف) أن صاحب (الإقليد) ذكر بيتاً أنشده الحسن بن على الطوسي ولم يعزه إلى قائل.
وفي (الكشاف) زعم ابن قتيبة: أنه لَفَّاءُ ولُفُّ ثم ألفاف (أي أن ألفافاً جمع الجمع) قال: وما أظنه واجدًّا له نظيراً. أي لا يجمع فُعْل جمعاً على أفعال، أي لا نظير له إذ لا يقال خُضر وأخضار وحُمر وأحمار.
يريد أنه لا يخرّج الكلام الفصيح على استعمال لم يثبت ورود نظيره في كلام العرب مع وجود تأويل له على وجه وارد.
فكان أظهر الوجوه أن {ألفافاً} اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وبهذا الاستدلال والامتنان ختمت الأدلة التي أقيمت لهم على انفراد الله تعالى بالإلهية وتضمنت الإِيماء إلى إمكان البعث وما أدمج فيها من المنن عليهم عساهم أن يذكروا النعمة فيشعروا بواجب شكر المنعم ولا يستفظعوا إبطال الشركاء في الإلهية وينظروا فيما بلغهم عنه من الإِخبار بالبعث والجزاء فيصرفوا عقولهم للنظر في دلائل تصديق ذلك.
وقد ابتدئت هذه الدلائل بدلائل خلق الأرض وحالتها وجالت بهم الذكرى على أهم ما على الأرض من الجماد والحيوان، ثم ما في الأفق من أعراض الليل والنهار.
ثم تصاعد بهم التجوال بالنظر في خلق السماوات وبخاصة الشمس ثم نُزل بهم إلى دلائل السحاب والمطر فنزلوا معه إلى ما يخرج من الأرض من بدائع الصنائع ومنتهى المنافع فإذا هم ينظرون من حيث صَدروا وذلك من رد العجز على الصدر. اهـ.